الخميس، 16 فبراير 2012

غبار ليبيا لم تبرح علمي



قتل القذافي، ليس هذا بخبر عاجل، لكنه في الحقيقة بالنسبة لليبيين الذين عايشت بدايات ثورتهم خبر عاجل متجدد يوما بعد يوم، لأن مجرد فكرة ان تكون ليبيا بدون العقيد والدينار من غير صورته والأثير عصيا حتى على أرشيف صوته، مجرد الفكرة كانت في مثل هذا اليوم من العام الماضي ضربا من ضروب الإنتحار، مستحيلا لا يعرف التحقق، خيالا يودي بصاحبه إلى حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت إلا عين العقيد وزبانيته وكتائبه، تلك العين التي لم تر في ليبيا لعقود أربعة خلت سوى مزرعة خلفية لمن كان يظن لبرهة انه رب أعلى حرام الكفر فيه، رب مدينة توهم انها فاضلة وان من فيها عبيد وإماء سخروا لخدمته وخدمة عياله من بعده، خلقوا ليكونوا كومبارس صامت في الفيلم القذافي الطويل.
لحظة دخولنا إلى ليبيا 
لا أدعي ان اعرف ليبيا جيدا، ولا حتى الليبيين، لكن اعلم اني يوم دخلت ليبيا، كنت اتعرف والليبين على بلدهم، نتعرف معا، لأنهم بقدر جهلي بهذا البلد كان يجهلون، كنا معا نجرب كيف تكون الحياة في ليبيا بدون القذافي، بدون اخضره الذي عصى على الحقول والمزارع، حتى الأطفال كانوا يدربون حناجرهم في أيامنا الأولى تلك على شعار غير: "الله معمر وليبيا وبس".
لحظة دخولي إلى ليبيا من مصر، شعرت اني في عالم غير العالم الذي كنت فيه، حينها كان الخوف لازال يسيطر على الثوار واهلهم لاسيما وان كتائب العقيد كان لازالت قوية، وما كان يعرف من قبل باللجان الثورية لم تكن بعد قد إختفت من وجود. اولى محطاتي طبرق، ومن لا يعرف طبرق، مكان من التاريخ لطالما سمعنا به، مكان عاد إلى التاريخ وسمع العالم كله به يوم دخل ابناؤها ما كان يسمى في عصر القذافي ب"المثابة" وحرقوا مجسم الكتاب الأخضر أمامها.
في طبرق عشنا الأيام الاولى التي كانت هادئة إلا من أصوات الرصاص الإحتفالي وما كان يعرف واعتقد لا يزال بالجيلاتينات التي كان يرميها البعض في البحر او في الجو لتصدر أصواتا تشبه أصوات الإنفجارات.
مدينة طبرق
مهمتي الأولى كانت في ساحة طبرق، الساحة التي تضم مسجد الملك إدريس التي سمعت عنه الكثير، وكانوا يقولون عنه سيدي إدريس طلاق المحابيس، هناك تجمع المئات ليوصلوا الصوت عبر الكاميرا إلى العالم وليقولوا أن طبرق إستردت هويتها.

ايام قليلة وبدأ القذافي هجومه على بنغازي، كان على الجميع الرحيل، يومها قررت البقاء رغم كل المخاطر ورغم تحذيرات إدارة مؤسستي بأن السلامة تقتضي الخروج من ليبيا، حينها قلت ان باق مع كاميرا وجهاز مونتاج وجهاز بث، وقرر البقاء معي هناك الزميل المصور عصام مواسي الذي رفض ان يتركني وحيدا فبقينا ننتظر إما وصول القذافي وإما ان نتحرك نحن بإتجاه المناطق الأخرى.
الزميل عصام مواسي وانا خلال التغطية
لم يطل الأمر حتى بدأت ضربات الناتو لجحافل القذافي، وفي ظرف ساعات عاد الجميع ودخلت للمرة الأولى إلى بنغازي، لأفجع بخبر مقتل محمد نبوس الناشط والصحافي الذي كنت أتابعه يوميا على الإنترنت ورأيته وهو في تلك الغرفة على الشاشة يحضر للظهور على شاشات التلفاز للتعريف بثورة أبناء شعبه.
في بنغازي كان الوضع مختلفا عن طبرق، بنغازي مدينة كبيرة، والخطر فيها أكبر، وإمكانية التحرك صعبة ودونها المصاعب، لكنها مكان تجمع الصحافيين والناشطين، قل عاصمة الثورة الليبية دون منازع.
من بنغازي إلى أجدابيا كانت الرحلة اليومية، ولدى سقوط أجدابيا بيد الثوار، اصبحت الرحلة بإتجاه البريقة ثم رأس لانوف فبن جواد والنوفلية وصولا إلى أخر مكان حطت فيه قدمي الهراوة، لنتراجع مع الثوار بعد ذلك إلى أجدابيا من جديد التي قال ثوارها لكتائب القذافي إن عدتم عدنا وجعلوا أجدابيا لهم حصيرا، أجدابيا تلك التي أضحت مدينة للحرب ومن ليس من أهل الحرب فمكانه قطعا لم يكن أجدابيا .

أذكر هناك رجلا جليلا ربط نفسه ببوابة المدينة الغربية رافضا التراجع لدى هجوم الكتائب، وعدت لأجده هناك عند ذات البوابة فأضحى لأنه يستحق ذلك أيقونة من أيقونات الصمود.
لم يبق لي من ليبيا سوى ذكريات وعلم ليبي اهداني إياه حراس الحدود لدى خروجي من البلاد بإتجاه مصر، يومها إقترب مني احد عناصر الثوار وسألني عن سبب مغادرتي فقلت له ان إصابة في كتفي الأيمن تعرضت لها خلال تغطيتي المعارك في أجدابيا تحتم علي الخروج لتلقي العلاج، لحظات فقط وتجمع حولي الثوار وبين سؤال وجواب قام احدهم وإعتلى اخر نقطة على الحدود الليبية المصرية منزلا علم الثورة ليقدمه لي هدية كما قال من الشعب الليبي، العلم لا زال معي وغبار ليبيا لازلت عالقة بين هلاله ونجمته.

Al-Mayadeeen Feeds