السبت، 23 ديسمبر 2017

إغتيال في أنقرة...تركيا ليست بخير

قصة القاتل، وقصة السفير، وقصة المصور، وقصة الوزير...أربع قصص لأربع شخصيات رسمت معالم إغتيال أنقرة...لماذا تركيا ليست بخير؟

أميركا وإيران: حربٌ حربٌ، سلمٌ سلمٌ

روحاني أمام تمثال الأميركي هوارد باسكرفيل في أحد متاحف مدينة تبريز (وكالة تسنيم)
لا يفهم أحد في الشرق الأوسط أميركا أفضل من الإيرانيين، ليس في الأمر تضخيم لقدرة طرف شرق أوسطي أصيل في الصراع، لكنه قراءة في مشاهد متعددة منذ خيبة الأمل الأولى صيف 1953، عندما أسقط الأميركيون بالتعاون مع البريطانيين أول تجربة ديمقراطية إيرانية وطنية عبر إنقلاب أطاح برئيس الوزراء حينذاك محمد مصدّق وثبّت محمد رضا بهلوي ملكاً على إيران لربع قرن.
ليس سراً أن النظرة الإيرانية للولايات المتحدة الأميركية قبل انقلاب 28 مرداد (بحسب التقويم الإيراني) كانت تغلب عليها الإيجابية بالمقارنة مع القوى الأجنبية الأخرى، كبريطانيا وروسيا، ولعلّ ما لا يعرفه بعض القراء أنّ الإيرانيين يحتفظون في مدينة تبريز شمالي غرب البلاد بتمثال لـ"شهيد أميركي" قضى خلال الدفاع مع ثلّة من أنصار الثورة الدستورية عن المدينة بعد حصارها من قبل قوات الشاه محمد علي قاجار الذي كان يريد إسقاط آخر قلاع الدستوريين بعدما كان قد استهدف مفاعيل ثورة 1906 المعروفة بـ"المشروطة" بقصف أول برلمان في العالم الإسلامي عام 1908 في طهران.
كان هوارد باسكرفيل المولود في نبراسكا عام 1885 أستاذاً في المدرسة الأميركية في تبريز ورفض اللجوء إلى قنصلية بلاده هناك وقاد ما يزيد عن المئة مقاتل قبل أن يقتل وقد أتمّ الرابعة والعشرين. ظلت ذكرى باسكرفيل ومن بعده مورغن شوستر، صاحب كتاب "خنق فارس" والرجل الذي جرى تعيينه أميناً عاماً على خزينة الدولة من قبل الدستوريين، تحمل صورة الأميركي الطيب في مواجهة الروسي الدموي والبريطاني الماكر والمستغل. قصة شوستر باختصار أنه كان متعاطفاً مع الإيرانيين في مواجهة البريطانيين والروس، ورفض التآمر على بلاد فارس حينها وتثبيت كونها مملكة فاشلة، ونظّم جمع الضرائب وصنع للدولة هيبة نسبية في مواجهة رجال الإقطاع السياسي الأمر الذي دفع روسيا القيصرية آنذاك لإنذار الحكومة والمجلس اللذين ساندا شوستر باحتلال طهران في حال لم يُطرد الأميركي. عارض المجلس الإنذار وتظاهر الناس هاتفين "الموت أو الإستقلال" لكن الضغط دفع بنجف قلي خان صمصام السلطنة رئيس الحكومة لعزل شستر حقناً للدماء. رحل الأميركي الطيب الآخر لكن ذكراه لم تترك قلوب الإيرانيين.
في ذات العام 1909 الذي شهد مقتل باسكرفيل وتعيين شوستر إنتهت ولاية الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت الذي إختار خلال الثورة الدستورية عدم الإنحياز لأي طرف، رغم أن وزيره في طهران كان متعاطفاً مع الثوار، لكنّ حفيد روزفلت، كيرمت روزفلت رجل المخابرات المركزية الأميركية "سي آي إيه"، كان واحداً من بين رجال آخرين أنهوا رسمياً أسطورة الأميركي الطيب في الوجدان الجمعي الإيراني. ليس عجباً أن أوّل شعار بـ"السقوط لأميركا" كان في أصفهان عام 1953، حسبما يورد المؤرخ الإيراني إرواند إبراهيميان في كتابه "الإنقلاب"، حيث حاصرت حشود غاضبة مبنى القنصلية الأميركية في المدينة وهم يرددون "فلتسقط أميركا"، "أيها اليانكيز إذهبوا إلى بلادكم". كان مصدّق في ساعاته الأخيرة بعد نجاته من موجة الإنقلاب الأولى في 17 آب/أغسطس وبينما هو غافل عن موجة ثانية بعد يومين كان يلتقي بالسفير الأميركي لوي هندرسون أحد مهندسي الضربة القاضية التي انتهت برئيس الوزراء العجوز في إقامته الجبرية في مدينة أحمد اباد حتى وفاته عام 1967.
نهاية الأميركي الطيب عززت حالة التوجس الطبيعي من الخارج، لا سيما من الدول الكبرى، والتي نظّر لها الفيلسوف الإيراني أحمد فرديد عبر مصطلح "التسمم بالغرب" أو "غرب زدگي" والذي حوّله الكاتب الإيراني جلال آل أحمد إلى كتاب في العام 1961 ولا يزال حتى اليوم من الكتب الأكثر مبيعاً في إيران. أسّس هذا الكتاب لمشاهد عديدة في القادم الإيراني من السنوات، للتمرد على "الأجنبي المتآمر والمستغل المستعمر"، والأميركي أضحى في قلب التصنيف بما اقترفه بحق جنين الديمقراطية الإيراني كما سلف، وبتثبيته حكم الشاه، لا من خلال الدعم المباشر فقط، إنما عبر توفير بديل له عن البريطاني. كانت جدران عدم الثقة تعلو يوماً بعد يوم، وواشنطن لم تر حاجة لبذل جهد لنسج علاقة مع غير الشاه وحاشيته. ولعلّ قانون الحصانة للمستشارين والعسكريين الأميركيين في إيران الذي أقرّته حكومة الشاه في العام 1964 ثبّت النظرة السلبية بما لقي من اعتراض وصل إلى حدّ قول آية الله روح الله الخميني الذي كان حينذاك في بدايات صناعة ثورته "لو دهس خادم أميركي صغير، طباخ أميركي، مرجعاً دينياً وسط البازار لا حقّ لمحاكمنا بتوقيفه.... لو دهس الشاه نفسه كلباً لأميركي فسيحاكم، ولكن لو دهس طباخ أميركي الشاه، رئيس الدولة، فليس من حق أحد أن يعترض طريقه".
كان اعتراض الخميني على قانون الحصانة للأميركيين سبباً في نفيه خارج إيران، إلى تركيا، ومن ثم العراق، ومن ثم الكويت ومن ثم فرنسا، ليعود بعد 15 عاماً إلى إيران على رأس ثورة غذّت بذرتها سطوة الأميركيين في الداخل الإيراني وتفاقم الشعور الشعبي بالاستضعاف وبأن ثروات البلاد تستفيد منها القوى الكبرى، لا سيّما أميركا، بينما الشعب يعاني تحت سطوة أجهزة أمنية كالسافاك الذي كانت وكالة الإستخبارات المركزية الأميركية، إلى جانب الموساد الإسرائيلي، أحد أهم مؤسسيه.


بدا المشهد إيجابياً أكثر من المتوقع مع توقيع الاتفاق النووي إلى أن وصل ترامب
عاد الخميني في العام 1979 إلى إيران قادماً من فرنسا التي كان غادر إليها من الكويت التي لم تستقبله بعدما طالب الشاه العراق بإخراجه قبل بضعة أشهر فقط. كانت الولايات المتحدة في هذه المرحلة تعيش حالة من عدم التصديق كما يلمح النائب في الكونغرس الأميركي وليام بروكسماير، المهتم بالشؤون الإيرانية. يقول بروكسماير في مطالعته أمام الكونغرس بتاريخ 26 شباط/ فبراير 1979، أي بعد أيام فقط من نجاح الثورة، "ربما الأكثر إثارة للإضطراب كانت المعلومات التي فاتت أجهزتنا الإستخبارية عن التطورات الداخلية الدقيقة التي كانت تجري في إيران. وقد طلبت من الأدميرال ترنر (ستانسفيلد ترنر مدير السي آي إيه) إيلاء إهتمام أكبر بالمعلومات القادمة من إيران، بحيث تكون محدّثة ومفصّلة وموسعة على نحو أكبر. ردّه لم يقدم إضاءة جديدة على الأمر". 
يضيف بروكسماير في كلمته الطويلة التي تضمنت كل المراسلات مع وكالة الإستخبارات المركزية ووزارة الخارجية "يقول محلل في سي آي إيه في شهادة له في شهر كانون الثاني/ يناير الماضي (1979): حتى وقت قريب لم يكن بالإمكان الحصول على معلومات إستخبارية عن إيران. الإدارة كانت قلقة من أن تعرّض أي مراسلات تحمل نوعاً من السلبية دعم الكونغرس لبرنامج المبيعات العسكرية للخطر".

أصبحت أميركا في خطاب الإيرانيين "الشيطان الأكبر"، وأضحى الموت مرافقاً لها حيثما ذكرت. لم يكن اقتحام السفارة الأميركية في طهران سوى عملية إعلان رسمي إيراني لإنتهاء عملية التحول من "الأميركي الطيب" إلى "الشيطان الأكبر". في إيران هناك من يعتقد أن أميركا  مهّدت عن قصد أو عن غير قصد لشيطنة نفسها في الوجدان الإيراني، هم يستدلون بالإصرار الأميركي على تثبيت نظرية العداء في تجارب مختلفة، من الموقف من الحرب الإيرانية العراقية إلى سياسة العقوبات المتدرجة. لم يكن بالإمكان فتح كوّة في جدار عدم الثقة السميك، بل إن الجدار كان يتدثر بجدار إلى ما لا نهاية. 

فجأة ظهر في الأفق ما كان يمكن أن يكون عاملاً في هدم كل هذه الجدران، بل يمكن القول إن بعضاً منها سقط بمجرد إيجاد مساحة مشتركة حول الملف النووي الإيراني، الذي جمع بين وزيري الخارجية الأميركي والإيراني بين عامي 2013 و2015 مئات المرات. بدا المشهد إيجابياً أكثر من المتوقع، حتى ظنّ البعض أنّ شعار "الشيطان الأكبر" الذي تستخدمه إيران في مخاطبة أميركا، والتصنيف الأميركي لإيران كدولة "داعمة للإرهاب"، سيندثران مع الوقت، وأن عقيدة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، التي استعارها من وزير خارجيته هنري كسينجر حول التوأمين الصنوين في المنطقة، السعودية وإيران، ستعود مع الوقت لتحكم استقرار الشرق الأوسط الهش. "الأميركي الطيب" عاد يظهر من بعيد، رآه رجل الشارع الإيراني، لمحه التاجر والصحفي والسياسي، حتى من يحمل الإيديولوجيا الثورية أو الدينية، شعر حقاً بأن النموذج في خطر، لكن القادم من بعيد لم يكن سوى دونالد ترامب، رئيس أميركا الخامس والأربعون، وقاتل "الأميركي الطيب" في العقل الإيراني. 

خلف حجاب إيران

نظرية الجبال تنطبق على فلسفة تكوين ومسار وتاريخ إيران
لا تنتهي الجبال في الطريق إلى محافظة كردستان شمالي غرب إيران، لا تنتهي، وإن عاجلك بين فكرة وأخرى شعور بأنها المرة الأخيرة التي ترى فيها شواهق بعيدة في الدرب الطويل. هيهات، فخلف كل جبل جبال، وجبال وجبال، حتى يكاد المرء يسلّم أمره، تماماً كما يسلم أمره كلّ من يتوقع أن يصل نهاية حاسمة في البحث عن إيران في قلب إيران. المعادلة هنا أنك كلّما عرفت أكثر كلّما أيقنت أنك لا تعرف سوى القليل، نظرية الجبال تنطبق على فلسفة تكوين ومسار وتاريخ هذا البلد إلى درجة أن أهله لكثرة تعقيداته لا يدّعون أنهم يعرفون عنه كل شيء، حتى بعض الواضحات التي تخالها مسلّمات تضيع في غياهب الجوانية الإيرانية التي تكاد تفيض للوهلة الأولى، لكنها تستحيل إسفنجة تمتص ما تيسّر وتترك ما تعسّر ليصبغها.

شخصية الدولة

مهّد جموح القاجاريين البذخي والتفريطي الطريق لأول ثورة وضعت البلاد على سكة دستورية عام 1906
لا يختلف أحد على حقيقة أن إيران دولة ذات غالبية شيعية إلى جانب أقليّات دينية وطائفية أخرى. لكن هذه الغالبية متعددة الأعراق والقوميات، لعلّ القومية الفارسية أكبر أقلياتها. فالجمهورية الإسلامية نظام حكم مستوحى من نظريات السلف الشيعي الذي أراد أن يوجد إطاراً للإستمرار في زمن الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر لدى الشيعة، محمد بن الحسن المهدي، فكانت نظرية نيابة الإمام التي بدأت في الإطار الديني قبل قرون من الآن واستحالت مع نهايات القرن الماضي واقعاً عملياً عنوانه نظرية "ولاية الفقيه" التي تحكم مبادئها هذه الجمهورية. 
ولأنّ إيران دولة تتلبسها شخصية نظام الحكم، يتحوّل سلوك الدولة في الحكم والتفاعل والخطاب إلى صورة عن الإيديولوجية الحاكمة، لذا غلب البذخ على سنيّ حكم الملوك، وأضحى الإستعراض لكل صغير بحجم حبة القمح يحيله سهولاً من السنابل. هكذا كانت أيام السلالة البهلوية التي أصرّ ثاني ملوكها وآخرهم، محمد رضا شاه على الإحتفال بذكرى مرور 25 قرناً على الحكم الملكي في العام 1971 ببناء مدينة من الخيام المزوّدة بكل شيء لضيوفه من ملوك ورؤساء من حول العالم، اُحضرت لأجلهم أفخر الولائم من أوروبا، ليقول ولتقول معه حكومته للعالم إنه أعظم الملوك حتى وإن لم تكن أسرته سليلة ملوك. لم يكن البذخ وحده عماد هذه الشخصية، "التسمم بالغرب"، المصطلح الذي وضعه الفيلسوف الإيراني أحمد فرديد، كان أيضاً وجهاً آخر مرئياً، وقد أسّس له رضا شاه الذي احتار كيف يقول للعالم إنه يحكم دولة غربية تقع في الشرق. فحيناً يفرض على الرجال لبس قبعات وربطات عنق، وحيناً آخر يعلن منع النساء من ارتداء الحجاب ونزع الشادور. يمكن اختصار هذه المرحلة بجملة قالها رضا شاه لرئيس وزرائه قلي هدايت الذي بدوره ذكرها في كتاب مذكراته (خاطرات وخطرات) "كلّ ما أحاول فعله هو أن نبدو مثل الأوروبيين حتى لا يهزأوا بنا". 
في زمن القاجار إرتدت الدولة ثوباً آخر من البذخ والجاه، ثوباً فيه من ذهنية القزلباش، أجداد القاجاريين، المنبهرين بالسلطة حتى الثمالة والحكام الباحثين عن مكان تحت شمس التحول الكوني في ظل الثورة الصناعية الكبرى في آن. أنفقت الدولة ميزانياتها وباعت مواردها لقاء رحلات ناصر الدين شاه ومظفر الدين شاه إلى أوروبا ولقاء استمتاعهم بآخر ما وصلت إليه بلاد ما وراء البحار. ربما يمكن القول إنّ انبهارهم سمح لإيران بأن تتعرف على العالم وأن تزوّد خزائنها بتقنيات حديثة نسبة إلى ذلك الزمن، لكن بثمن كبير جداً. في هذه المرحلة الزمنية التي بلغت أوجها في القرن التاسع عشر كانت إيران تشهد إضمحلال الشعور الإمبراطوري وصعود النفس القومي، خريطة إيران بشكلها الحالي كانت تحسم حدود امتدادها.

منذ انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية وعقلية مختلفة تماماً عن السابق تحكم البلاد، إنها عقلية رجل الدين الثائر، الزاهد المتمرد، غير الآبه بالخارج المتوجس منه، والمتعلق بالغيبيات وسط عالم مادي.
لعب ميرزا تقي خان المعروف بأمير كبير دوراً كبيراً في صناعة نهضة إيرانية كادت أن تصنع دولة. لكن شخصية الحكم، رفضت دولة المؤسسات التي أرادها أمير كبير، ولم يطل الأمر حتى قُتل الأخير بأمر من ملك ذلك الزمان، ناصر الدين قاجار، الذي رسّخ شخصية الدولة المزرعة ببيع تبغ البلاد عام 1891 ومن بعده ببيع خليفته ونجله مظفر الدين لنفط البلاد عام 1901. 
مهد جموح القاجاريين البذخي والتفريطي الطريق لأول ثورة وضعت البلاد على سكة دستورية عام 1906 والتي تمخض عنها تأسيس أول برلمان في العالم الإسلامي وإرساء نهج مختلف في العلاقة بين الحاكم والمحكوم. صحيح أن محمد علي شاه إستغل توليه السلطة بعد والده مظفر الدين لضرب منجزات الثورة الدستورية لكنه سقط بعد قليل من قصفه البرلمان ومحاولته إعدام الثورة وهو ما عبّد الطريق لسقوط سلالته في زمن نجله وخليفته أحمد شاه. 
منذ انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية وعقلية مختلفة تماماً عن السابق تحكم البلاد، إنها عقلية رجل الدين الثائر، الزاهد المتمرد، غير الآبه بالخارج المتوجس منه، والمتعلق بالغيبيات وسط عالم مادي. شخصية إيران الدولة ما بعد الثورة متشابكة إلى حدّ يصح فيها القول إنها في لغة القواعد ممنوعة من الصرف، إستثناء في السياق ولعل ذلك كان من أسباب نجاحها. لم يكن قد مضى الكثير على نزول أنور السادات سلّم الطائرة في مطار بن غريون في تل أبيب في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977 فاتحاً الطريق أمام مسار عربي ــ إسرائيلي جديد بدأ باتفاقية كامب ديفيد، حتى حطّت طائرة روح الله خميني في مطار طهران منهية حكم سلالة بهلوي ومعها 2500 عام من الملكية. بدا المشهدان متقابلين بكل ما فيهما من معان، وإيران حتى اللحظة تلبس شخصية الخميني الثائر في تحدّيه للتيار الذي كان يسحب المنطقة في تلك المرحلة. 
بالتوازي إنسحب التوجس، الذي كان يحكم الشخصية العادية الإيرانية منذ الإنقلاب على حكومة رئيس الوزراء السابق محمد مصدق عام 1953، على الدولة، فأضحى "التسمم بالغرب" تهمة بعد أن كان مساراً في ظل الحكم السابق. أضحى كل آخر خارجي مشبوهاً ومحل إتهام حتى يثبت العكس. هكذا دخلت إيران الجمهورية الإسلامية مرحلة الحاجز والجدار بينها وبين الآخرين. عام 1979، عام انتصار الثورة، كان نقطة فاصلة في عملية تسويق إيران لنفسها، فبدأت تواجه حواجز فكرية وعملية مرتبطة بشخصية الزاهد الحوزوي التي تلبستها. فالمؤسسة الدينية لا سيما في تربيتها لطلبة العلوم الشرعية ترسخ فيهم ذهنية الإبتعاد عن مديح الذات واستعراض الإنجازات على قاعدة أن اليد اليمنى يجب ألا تعلم بما أعطت اليد اليسرى، ومادح نفسه كذاب، وصدقة السر أكثر وقعاً وغير ذلك في نظريات السير والسلوك التي تستقيم في غير مكان سوى إدارة الدولة. لعلّ هذا الذي يجعل كلّ زائر لإيران الجمهورية مشدوهاً، غير مصدّق أن المكان الذي يزور هو عينه المكان الذي يسمع به في نشرات الأخبار ويقرأ عنه على صفحات الإنترنت. ما يصدم هو رؤية إيران بعين الكاميرا محدودة بمجموعة من الصور الوظيفية، أكان من الحكم في إيران أم من أعدائه وحتى بعض أصدقائه في الخارج. نموذج القوة والصواريخ والمناورات العسكرية ورجال الدين الذين يرفعون البنادق والنساء اللواتي يسرن في التظاهرات رافعات القبضات وعلى رؤوسهن عصبات الموت لأميركا. مشهد القوة المعتاد إبرازه في الجمهورية الإسلامية عبر إعلامها والإعلام الصديق، هو المشهد عينه عبر الإعلام المناهض لطهران الذي يستخدم في إطار تعزيز الإيرانفوبيا ودعاية أن إيران الإسلامية تهديد للمحيط والعالم. ومن دون اتفاق بل من موقع العداوة التقت عدسة الكاميرا عند صورة واحدة.


دواخل التعددية الإيرانية

في إيران خليط سائر على حبل رفيع بين اليمين واليسار
من يقرأ ويشاهد إيران من الخارج لا يمكن له حقاً أن يتلمس معالم وجهها الحقيقية، تماماً كسيدة جميلة تتدثر بخمار، بل قل حتى الذي في إيران يقرر أن يقرأها ويشاهدها من زاوية واحدة لن ينجح في رسم صورة حقيقية لهذا البلد، فلا هو يشبه تماماً أحياء شمالي طهران الفارهة الفخمة وبناتها وشبانها الذين يقودون سيارات البورش والفيراري ويقضون الأوقات في مراكزها التجارية الضخمة، ولا هو يشبه أبناء الأحياء الجنوبية والضواحي المحيطة بالعاصمة على تفاوت مستوياتهم حياتهم. إيران هي مزيج من كل هؤلاء، تشبه نوعاً من الغذاء يسمى بـ"المعجون" وهو جيد لبثّ الطاقة في الجسد، يخلط فيه ما تيسر من أطايب وله طعم لا يمكن أن يخطئه ذواق، كل هؤلاء معاً هم إيران، وكل واحد على حدى لا يمثّل سوى عنصر من الخليط. هذا الخليط فيه قوميات وطوائف وأديان، فيه موالون ومعارضون ورماديون سائرون على حبل رفيع بين اليمين واليسار، فيه المؤمن حتى الثمالة، والمؤمن لأن الإيمان مفيد في دولة دينية، والمؤمن ثقافياً، وفيه الكافر حتى الإلحاد والملحد الذي لا تفوته زيارة دينية أو موسم فيه ذكر ودعاء، وهؤلاء جميعاً لهم حق على الدولة، أي دولة كانت، أن تعاملهم كمواطنين مستحقين للمواطنة.
ولأن الحكم في إيران إستمرارية، فإن نظام اليوم وإن كان يسبغ على الدولة بشخصيته فهو أيضاً يحمل على كاهله إرث سنين في معادلة العلاقة بين الحاكم والشعب وبين المجتمع والدولة وبين الداخل والخارج. تعرف المؤسسة الحاكمة بأنها لكي تحافظ على وجودها عليها أن تبقى تحت سقف النعمة الإلهية "فر الهي" والتعريف الأبسط لهذه النعمة هو التواضع وحسب الآية القرآنية الشريفة (ولا تمش في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً) "الإسراء 37"، وهذا ينطبق على كل شيء، لذا فإن العلاقة مع "الآخر"، أي "آخر" كانت تحت سقف النظام تحكمها ضوابط وأسقف غير مكتوبة لكنها مفهومة للجميع، هي لغة غير محكية وغير مكتوبة، تفاهم يرسم حدوداً بضمانة إيران، وهذا أقصى وأقسى ما يمكن أن يكون ضمانة لأبناء هذا البلد.


الولي الفقيه وإدارة العزف

يدرك المرشد أن هذه القطعة الجغرافية من العالم لا تدار إلا بعقلية المايسترو
لا نقاش في إيران أو خارجها حول صلاحيات الولي الفقيه، القائد كما يسمى في إيران، والمرشد الأعلى كما اعتدنا في الصحافة أن نطلق عليه من دون سند رسمي لهذه التسمية. رغم الصلاحيات الواسعة يقبل المرشد أحياناً بقرارات قد لا تكون محل تأييده، هو من دون شك يعلم بكل قرار على مستوى المؤسسة الحاكمة، لكن هذا لا يعني بأنه صاحب كل القرارات، وهناك قرارات كبرى يرغب في تمريرها لكن الظروف المحيطة قد لا تسمح بها، وأحياناً هو يرمي باتجاه ما ويبقى يؤكد على ضرورة السير فيه لكن مسؤولي البلاد، من حكومة ومجلس شورى وغيرها من مؤسسات تصنع القوانين وتنفذها، يسلكون دروباً مختلفة وبالتالي لا يسلكون الإتجاه الذي يؤكد عليه دونما أن يعلنوا ذلك على الملأ، ولعلّ مثال الإقتصاد المقاوم خير دليل على ذلك حيث إن الأمر حتى اللحظة لا يعدو كونه شعاراً يتحدث به الجميع بينما الحكومات المتعاقبة تتبنى اقتصاد السوق وتبحث عن الحلول لمشاكل الداخل في الخارج بينما يقول هو إن نسبة وازنة من أزمات إيران الإقتصادية سببها داخلي لا خارجي.
قبل أيام فقط لم يجد المرشد آية الله علي خامنئي حرجاً في التوجه إلى رجال الحوزة بالقول إن الثورة الإسلامية لم تنجح في صناعة مجتمع إسلامي أو حتى دولة إسلامية بعد، "نحن لا نملك اليوم مجتمعاً إسلامياً ولا دولة إسلامية، إنما نجحنا في إطلاق ثورة إسلامية مكنتنا من تأسيس نظام إسلامي. لحدّ الآن وُفِقنا، وهذا مهم جداً، لكن نحن بحاجة إلى تأسيس دولة إسلامية وإدارة إسلامية للبلد، وهذا ما لم نحققه حتى الآن بل يفصلنا عن هذا الهدف مسافة كبيرة". كان كلام المرشد صادماً بالنسبة لكثر لأنه كان صريحاً جداً، فالعادة أن يرمي أصحاب النظريات أو الأوصياء عليها للترويج لنجاحات في مسار التأكيد على أن النظرية واقعية وقابلة للتطبيق العملي، وهذا هو الحال في كثير من الملفات التي كان يسعى الوصول فيها إلى تخوم الرؤية المستقبلية لإيران الإسلامية التي يريد.  

لم يجد خامنئي حرجاً في التوجه إلى رجال الحوزة بالقول إن الثورة الإسلامية لم تنجح في صناعة مجتمع إسلامي أو حتى دولة إسلامية بعد

يستطيع المرشد بصلاحياته الواسعة أن يطلب فرض ما يريده، في مختلف مجالات الحياة، لكنه يحجم عن إستخدام ما لديه من قوة لأنه يعلم أن هذه القطعة الجغرافية من العالم لا تدار إلا بعقلية المايسترو الذي يقود الأوركسترا، يطلق عملية العزف من دون أن يعزف ويصحح متى كان التصحيح ضرورة. التحوّل المجتمعي يتطلب مساراً من الأسفل إلى الأعلى وتفاعلاً من الأعلى إلى الأسفل، يتطلب قناعة راسخة لدى أغلبية المجتمع بأن العلاقة بالدين تتخطى العبادات والطقوس إلى ترسيخ قيم المجتمع هذه في تعاملات الناس ونواياهم ومراميهم، في العلم الذي ينتجه العلماء، في النظريات التي يضعها المنظّرون، في كل تفصيل لذا فالطريق كما يقول طويل. بالنسبة للمرشد عماد الإستقلال يقوم على المعرفة بمنطلقاتها القيمية المنبثقة عن الإسلام، وحداثتها وتقدمها التكنولوجي، هذا من جهة، أما الإقتصاد فهو عنصر رئيسي في تأمين إكتفاء داخلي لا سيما عندما يكون غير معتمد على النفط، لأن أسعار النفط تضعها دول الخارج ولا يمكن التحكم بها، هكذا فقط يمكن القول إن هذه الدولة مستقلة بالكامل عن الخارج، أي غير محتاجة وغير مرتبطة ولا يمكن الضغط عليها لتقديم تنازلات سياسية أو عسكرية أو إجتماعية أو ثقافية.


بعض التعصّب الذي لا يُفسد سياق التوازنات

في قم مراجع تقليد يشكلون قوة ضغط ناعمة على هوامش المؤسسة الحاكمة لكنّها فولاذية القبضات
في مقام فاطمة المعصومة أخت الإمام علي الرضا (الإمام الثامن لدى الشيعة) يجلس طلبة العلوم الدينية على رخام يخفي تحته قبور فقهاء وعلماء الأزمنة الماضية. شواهد القبور على الجدران المحيطة بالضريح الذي يعود إلى بدايات القرن الثالث الهجري. المكان يحمل بعداً دينياً كان جسراً لصناعة البعد الثوري، ففيه المدرسة الفيضية التي شهدت عامي 1963 و1964 أولى شرارات الثورة التي أطلقها آية الله الخميني وما تبعها من تداعيات وصلت إلى حدّ نفي رجل الدين الستيني خارج بلاده لأربعة عشر عاماً قبل أن يعود منتصراً بعد أسابيع قليلة فقط على خروج الشاه وعائلته إلى مصر. في قم مراجع تقليد يمثّلون خطوطاً دينية مختلفة، من الحداثة بمعناها الديني النقدي التشريحي، إلى السلفية والكلاسيكية والتعبد بالنصوص وتقديسها، هؤلاء جميعاً يشكلون قوة ضغط ناعمة على هوامش المؤسسة الحاكمة، ناعمة القفازات لكنّها فولاذية القبضات. لدى هؤلاء المراجع أتباع ومريدون يلتزمون بما يعتقدون به، وبعضهم لديه قراءته الخاصة للدين والمذهب، المنفصلة عن قراءة المؤسسة الحاكمة والمرشد، بعض هؤلاء يتبنى المدرسة التقليدية ما قبل الخمينية في العلاقة مع المسلمين السنّة، بكلام آخر لا يعجبهم، بل يحاربون كل مرجع أو رجل دين يدعو للتقارب مع الطوائف السنية ولنبذ اللعن والتجريح، لا يعنيهم في ذلك أكان رجل الدين هذا عادياً أم فوق عادي. القصة هنا تأخذنا إلى علاقة إيران بالسنة الإيرانيين والسنّة بشكل عام. من الخارج يبدو المشهد للمراقب موحداً، صفحة ماء لا يتخللها أي إختلاف، زيت صاف لا يعكّره أي شيء، حتى ولو كان ماء زلال، لكن الواقع مختلف عن ذلك، المدارس المتعددة للإمامية الإثني عشرية تحمل الكثير من الصداع لرجال الدين ممن يصنفون في خانة المجددين، لذا فتسمية شوارع بأسماء رموز لأهل السنة مثلاً ليس أمراً عادياً على الإطلاق، حتى ولو كان هذا الأمر في مناطق ذات أكثرية سنية على امتداد البلاد، أو حيثما كان هناك مسلمون سنة.

في قم مراجع تقليد يشكلون قوة ضغط ناعمة على هوامش المؤسسة الحاكمة.
أمّا في ما يتعلق بالخلفاء فالقضية مرتبطة بأحقية الخلافة والنقاش الطويل القديم الذي لن يصل فيه أحد إلى حلّ جذري، لكن بطبيعة الأحوال هناك من لديه وجهة نظر، ووجهة نظره تستفزها تسمية شارع في إيران بأحد هذه الأسماء، لكن من وجهة نظر المؤسسة الحاكمة يبقى هذا شأن المعترض، لماذا؟ لأن الدولة في العلاقة مع "الآخر" ملتزمة بالنظرة التي ذكرناها سابقاً والتي تعطي الحق في الإختلاف. والإختلاف هنا ليس مجرد حجاب سيدة في طهران يظهر بعض شعرها، ولا شاب يضع موسيقى بصوت عال في سيارته وسط الشارع، أو عائلة تقيم حفل عيد ميلاد في منزلها، أو شاب وفتاة يجلسان معاً، يداً بيد، في واحدة من حدائق البلاد الكثيرة. الإختلاف هنا عميق بعمق سنوات التفريق التي لم تنجح محاولات التقريب في جسر هوتها.خلال زيارتي إلى محافظة كردستان غربي إيران ولاحقاً لمحافظة أذربيجان الغربية مررت في أماكن تحمل أسماء الخلفاء الراشدين ورموز إسلامية كصلاح الدين الأيوبي والإمام الشافعي. إذا استثنينا الإمام الشافعي فهذه الأسماء قد تكون مستفزة لبعض رجال الدين من أتباع مدارس السلف التي تمتد في التاريخ إلى المحقق الكركي أول ضيوف الشاه إسماعيل الأول مؤسس الدولة الصفوية قبل خمسة قرون. هؤلاء قطعاً لن يعجبهم أن يكون في إيران، (دولة الشيعة)، شارع باسم صلاح الدين الأيوبي أو الخلفاء. ربما لن يفهم المسلم السني سبب هكذا رفض، والشرح قد يطول كثيراً، لكن الواقع أن التاريخ من زاوية القراءة الشيعية مختلف تماماً عن التاريخ من زاوية القراءة السنية، يكفي أن نقول أن الشيعة يحمّلون صلاح الدين مسؤولية قتل آلاف الشيعة خلال عودته من فتح المسجد الأقصى. 


بين السنّة والدولة اختلاف غير طائفي

في إيران ما يزيد عن 15 عشر ألف مسجد للمسلمين السنّة بينها مساجد ضخمة جداً
تقول الأسطورة إن السنّة في إيران ممنوعون من بناء المساجد والصلاة ويعيشون ظروفاً سيئة أينما كانوا في البلاد، أضف إلى أن البعض يقول إن السلطات الإيرانية تعمد إلى إعدام السنّة لمجرد إنتمائهم المذهبي، هذا إلى جانب أساطير أخرى كثيرة لا يتسع المكان والزمان لتعدادها. السنّة في إيران هم أقلية، وتماما ككل الأقليات في العالم لديهم مطالب ويريدون المزيد والمزيد من الحقوق، لكن مشكلتهم الحقيقية في إيران ليست في المساجد ولا في الصلاة. نعم هم في طهران لا يملكون مسجداً جامعاً ضخماً يقيمون فيه الصلاة، لكنهم يملكون أماكن صلاة متعددة، بعضها يتسع لمئات المصلين كما هو الحال في صادقية حيث اختبرت مشاركة المصلين صلاة الجمعة. في بقية المدن ما يزيد عن 15 عشر ألف مسجد سني بينها مساجد ضخمة جداً كحال المسجد المكي في زاهدان ومسجد الإمام الشافعي في كرمنشاه أو المسجد الأحمر التاريخي في مهاباد شمالي غرب إيران والذي يعود في التاريخ إلى العصر الصفوي، كما أنهم ممثلون في مجلس الشورى بـ18 نائباً على الأقل وفي مجلس خبراء القيادة الذي ينتخب المرشد بـ3 أعضاء. الأمر الآخر المرتبط بوضع السنة في البلاد كان عالجه الأستاذ فهمي هويدي في كتابه "إيران من الداخل" قبل أكثر من ثلاثة عقود وهو مرتبط بالمناهج الدراسية. ولكي لا أكون معتمداً على مادة نشرت قبل زمن طويل قمت بنفسي بالتدقيق في المناهج الدراسية الدينية للسنّة والتي من دون أدنى شك تقدم الرواية كما هي بالنسبة للمسلمين السنة في ما يتعلق بالخلفاء الراشدين وفي ما يتعلق بفضائل الخلفاء ومن ثم أئمة المذاهب الأربعة والأحكام وغيرها من الأمور التي تدرس عادة في سنوات التعليم الأساسي والمتوسط والثانوي. على صعيد المعاملات، الميراث والزواج والطلاق والحقوق الشخصية والوصية إلخ... كلها بحسب ما تقتضي المذاهب الأربعة لمتبعيها على إختلافها. على الصعيد الحركي ربما لا يعلم كثر أن حركة الإخوان المسلمين الإيرانية فاعلة في طهران وفي غيرها من المناطق عبر جماعة الدعوة والإصلاح والتي تنشر بشكل دائم على موقعها نشاطاتها ومطالبها وملاحظاتها، هذه الجماعة ناشطة على مستوى النخب السنية ولديها نشرة شهرية باسم الإصلاح تهتم بالمواضيع السياسية والإجتماعية والفكرية.
بما تقدم يبدو جلياً أن مطالب السنة في إيران ليست إطلاق أسماء الخلفاء الراشدين ورموز آخرين على شوارعهم ومساجدهم وحوزاتهم ومدارسهم لأن هذا متحقق، ولا هي في السماح لهم بحقوقهم الدينية المشروعة من قبل تطبيق الشريعة بحسب المذاهب التي يتبعونها، ولا أن السنة الإيرانيين يواجهون التمييز في الشوارع والمدن أو يتعرضون لمحاولات تشييع باللين أو القوة، ربما هذا الجانب هو ما يظنّه بعض الذين يلعبون على الوتر الطائفي مستخدمين ما سلف لتعميق الشرخ المذهبي. نعم للسنّة الإيرانيين مطالب بعضها سياسي وبعضها إجتماعي وبعضها تنموي. يريدون أن يكون لديهم وزراء في الحكومة وسفراء أكثر في الخارج ويرغبون بتعزيز وجودهم في الوظائف الرسمية وتولي إدارة محافظات ودعم تنموي إقتصادي للمناطق التي يشكلون الأكثرية فيها، تماماً كما يريد كثر من الشيعة الإيرانيين بالنسبة للنقطة الأخيرة.
لا يواجه السنة الإيرانيون التمييز في الشوارع والمدن ولا يتعرضون لمحاولات تشييع باللين أو القوة بخلاف ما يظنّه بعض اللاعبين على الوتر الطائفي.
في العام 2009 زرت إيران للمرة الأولى قادماً من العاصمة البريطانية لندن بغرض التعرف إلى البلاد والعمل فيها. كانت لحظاتي الأولى في طهران تحمل انشداهاً يشبه إلى حدّ كبير ذلك الذي تحدثنا عنه سابقاً، القادم المحمّل بنظرة مسبقة إلى بلد فيه كل أسباب المفاجأة. منذ تلك الزيارة وحتى اليوم زرت إيران عشرات المرات وعشت فيها ما يزيد عن العامين، وفي القياس بين إيران تلك المبهرة من النظرة الأولى وإيران ما بعد العام 2017 فارق كبير يؤشر إلى تطور على مستويات مختلفة، وهو بدوره يعكس قدرة المجتمع في إيران على صناعة مساره وتطويع ما يريد ليتناسب مع الواقع الذي يعيشه. حتى في الإعتراض لدى المجتمع الإيراني قواعده الخاصة، فترى النساء مثلاً ممن لا يعجبهن إرتداء الحجاب يعبرن عن هذا الإعتراض من خلال طريقة إرتدائه، يظهرن من شعورهن أكثر مما يسترن، وهن بذلك يقلن بشكل واضح أنهن غير محجبات.


أما غير المعترضات، فهن يحرصن على إظهار أعلى مستوى من الإلتزام بحجابهن من خلال ارتداء ما يعبر عن هذا الإلتزام والتديّن ليبدو المشهد للمراقب نوعاً من المواجهة بين إتجاهات فكرية متضادة، لكن من دون كلمة واحدة. الأمر ينطبق على الفن، والصحافة، وبطبيعة الحال السياسة التي تطور الصراع فيها خلال سنوات الثورة الأربعين تقريباً، من صراع بين إسلاميين وغير إسلاميين، إلى صراع بين يمين الإسلام ويساره، إلى مواجهة بين أصوليين وإصلاحيين، وصولاً إلى عملية تشريح التيارات بين ألوان أصولية متنوعة وألوان إصلاحية مختلفة، وتيار وسط حاكم يجمع بين هذا وذاك من دون أن يكون مرضياً لأي من الطرفين.

لا شك أن بين ذهنية شخصية الدولة وذهنية المجتمع مساحات لقاء وإختلاف عديدة، كما أن المجتمع بنفسه يعكس ألواناً مختلفة من يمينه إلى يساره، من متدينيه إلى ملاحدته، ولا عجب أن ترى أباً متديناً متزوجاً من أم غير محجبة يطلقون على ابنهم إسماً دينياً وآخر قومياً فيصبح الإسم مع مرور الزمن إسماً مركباً يرضي الجميع ويجعل من الطفل تركبية مثيرة للإهتمام. البعض قد يرى في هكذا تركبية انفصاماً، والبعض الآخر يرى فيها تكاملاً بين عناصر متضادة، وهناك من يصفها ببساطة بأنها تشبه إلى حد كبير حفل تنصيب الرئيس لدى المرشد الأعلى، حيث تعزف الأوركسترا الوطنية النشيد الإيراني تحت سقف حسينية مخصّصة بالأصل للمناسبات الدينية.

طهران ـ الرياض: عبد الناصر أرق الملك والشاه (٢)

خلال فترة الستينيات تحول المد الناصري إلى هاجس يسيطر على السعودية وإيران. كانت الحرب في اليمن تستعر وكل الأطراف فيها يتقاسمون النزاع، طهران والرياض في خندق الإمام الزيدي، والقاهرة خلف الجمهوريين، والغرب والاتحاد السوفياتي في وضع المراقب والمشجع على المزيد من الغرق.

طهران - الرياض: الطريق إلى الزلزال (١)

ليس التوتر الحديث بين إيران والسعودية وليد اللحظة، هو نتيجة عقود من التنافس على التأثير في المنطقة وعلى أحقية صياغة هويتها. في هذا الملف نقرأ في تاريخ العلاقة منذ زمن الملكية في إيران، نستعرض خارج السياق التاريخي بعض المحطات التي تؤكد أن الطريق إلى الزلزال بدأ منذ زمن.

الثلاثاء، 7 فبراير 2017

رفسنجاني.. آن الرحيل


رفسنجاني أحد الآباء المؤسسين للثورة الإسلامية في إيران
رفسنجاني أحد الآباء المؤسسين للثورة الإسلامية في إيران
ليس سهلاً أن تكون كهاشمي رفسنجاني وتموت، والروح في طور الصعود ستشعر قطعاً أنك تريد أن تعود قليلاً لتنهي عملاً، لتترك رسالة، لتقول كلمة، ثم تقفل ملتحقاً بملك الموت صاعداً إلى حيث الحساب.
ليس سهلاً أن يموت في إيران شخص كأكبر هاشمي بهرماني المشهور برفسنجاني، أحد الآباء المؤسسين للثورة التي اقتربت من الأربعين. هو الرئيس وصانع الرؤساء، محترف المشي على الحبال دون رفّة جفن، تحسبه لبرهة قد انتهى فيأتيك من حيث لا تحتسب بألف لبوس ولبوس. لرفسنجاني نكهة فريدة، سياسي بعمة ولقب آية الله، البرجوازي الحامل لمشعل الثورة، الثعلب حيناً والحمل حين تقتضي الضرورة... قد لا يتفق الإيرانيون على حب الرجل وبغضه، لكنه بالنسبة لهم شخص لن يتكرر أبداً.
في العام 1934 كانت أولى صرخات إبن قرية بهرمان في منطقة رفسنجان، كانت عينا أمه ماه بي بي صفريان تتفحص وجه الطفل الجديد بينما كان والده الحاج ميرزا علي هاشمي بهرماني ينشد له احتفالاً قصائد من شعر مولوي وسعدي. هو الإبن السادس من أسرة تضم تسعة أبناء، تعيش مستوى حياتياً جيداً وتملك أراضٍ شاسعة، لهذا العامل دور كبير لاحقاً في حياة هاشمي الشاب من الثورة وحتى دخوله معترك الحكم.
كانت سنوات الدراسة من القرية وصولاً إلى الحوزة العلمية في قم منطلقاً مهماً في تكوين شخصية رفسنجاني السياسية والثورية. في قم تبلور المشهد الثوري أمامه، هناك شهد ارتدادات الإنقلاب الأميركي البريطاني الذي أطاح برئيس الوزراء المنتخب د.محمد مصدق في آب 1953، تعلق بشخصية رجل الدين الثائر الشاب نوّاب صفوي، ولاحقاً كانت نقطة التحول في حياته بتعرفه على رجل الدين المغمور حينذاك روح الله الموسوي الخميني الذي كان يقطن في البيت المقابل لمنزل آل مرعشي الذي كان يسكن فيه والذي سيتزوج منه لاحقاً.
تطورت علاقة رفسنجاني ببيت آية الله الخميني الذي كان دوره يتعاظم شيئاً فشيئاً إلى أن ظهرت النُذر الأولى للثورة بالتزامن مع إعلان شاه إيران حينذاك محمد رضا بهلوي إطلاق ثورته البيضاء في العام 1963. لم يمض الكثير حتى جاءت أحداث الخامس عشر من شهر خرداد الإيراني في المدرسة الفيضية في الحوزة الدينية في قم والتي طبعت مسار النضال ضد الشاه ومسار رفسنجاني بشكل خاص.
خلال السنوات الممتدة بين 1963 و 1979 قضى هاشمي وقته بين السجون وحياة الخفاء، عرف معتقل قزل قلعة سيء الذكر وذهب لفترة إلى الجندية ليهرب لاحقاً منها وليعتقل مجدداً. في هذه الفترة ألّف رفسنجاني كتاباً عن أبو الدبلوماسية الإيرانية أمير كبير، رئيس حكومة ناصر الدين شاه القجاري في القرن التاسع عشر.
كذلك عمل على ترجمة كتاب القضية الفلسطينية للمفكر الفلسطيني أكرم زعيتر. كانت سنوات النضال هذه مناسبة ليتعرف إلى مجموعة من الشباب الثوري الذين لازمهم ولازموه خلال السنوات اللاحقة، أبرزهم على الإطلاق كان شاباً منحدراً من مدينة مشهد يدعى علي خامنئي. علاقة رفسنجاني وخامنئي النضالية تحولت إلى ثنائية ثورية خلال العقد الأول من الثورة وفي العقود الأخرى أخذت أشكالاً مختلفة.

العلاقة بين الخميني ورفسنجاني كانت تشبه علاقة الأب بإبنه
العلاقة بين الخميني ورفسنجاني كانت تشبه علاقة الأب بإبنه
إنتصار الثورة في إيران عام 1979 شكل منعطفاً تحول معه رفسنجاني من مناضل إلى رجل دولة. كانت العلاقة بين الرجلين تشبه إلى حدٍ ما علاقة أب بإبنه، والواقع أن الخميني كان بحسب المقربين منه يرى في الشاب الأربعيني عموداً رئيسياً من أعمدة الثورة، ربما هذا ما دفعه يوم محاولة اغتيال هاشمي للقول "هاشمي حي لأن الثورة حية" ليعود ويقول في مناسبة أخرى "لا يمكن لشخص أن يكون بمنزلة هاشمي عندي".
مرحلة رجل الدولة حملت للرجل الذي كان يوصف بـ"دست رست إمام" أي اليد اليمنى للإمام حملاً ثقيلاً من التحديات. الصراع الداخلي بين مكونات الثورة كان واحداً من هذه التحديات، والحرب العراقية الإيرانية كانت مكوناً آخراً، العلاقة المتوترة مع الأميركيين من اقتحام السفارة الأميركية إلى ارتدادات السياسة الخارجية الإيرانية الجديدة المؤيدة للفلسطينيين والمعادية لإسرائيل كانت كذلك، ثم قضية إيران كونترا وزيارة مستشار الأمن القومي الأميركي روبرت ماكفرلين إلى طهران التي لم يكن يعلم بها سوى عدد محدود من المسؤولين على رأسهم هو.
لاحقاً جاءت قضية آية الله حسين علي منتظري الخليفة السابق للإمام الخميني والذي لعب رفسنجاني وخامنئي معاً دوراً محورياً في محاولة جسر الهوة بينه وبين المرشد، لكن دون جدوى.
إلى جانب كونه بين 1980وحتى 1989 رئيساً لمجلس الشورى الإيراني جرى تعيين هاشمي قائداً للعمل العسكري خلال السنوات الأخيرة من الحرب مع العراق، ويجمع من عاصروا وعايشوا تلك المرحلة أنه الشخص الذي أقنع الإمام الخميني في اتخاذ قرار إنهاء الحرب والقبول بالقرار الدولي 598 الصادر عن مجلس الأمن الدولي.
لم تمض أشهر كثيرة حتى جاءت الليلة التي انقطع فيها الأمل من استمرار مؤسس الثورة على قيد الحياة، حسبما أفاد الأطباء، الإمام الخميني كان يحتضر. في تلك الأمسية كان سؤال الخلافة يطرح في كل بيت إيراني، وفي كل الدول المؤثرة والمتأثرة بإيران. معظم الأجوبة كانت تحمل تكهنات أثبتت فيما بعد أنها لم تكن تلامس عتبة الواقع. حتى أصحاب الأمر في طهران لم يكونوا قد وصلوا إلى اتفاق يسهل عملية الإنتخاب، ولا حتى على صيغة واضحة للمرحلة المقبلة.
جمع رفسنجاني أوراقه وذهب إلى مجلس الخبراء حاملاً الحل، ذكّر الجميع بكلام الإمام عن رئيس الجمهورية خامنئي وأنه عندما طالبوه بتسمية خليفته لأن أيديهم فارغة، أجابهم "لماذا؟ لديكم السيد خامنئي".



صورة تجمع السيد الخامنئي مع رفسنجاني وروحاني
صورة تجمع السيد الخامنئي مع رفسنجاني وروحاني
مع انتخاب خامنئي ولي فقيه ورفسنجاني لاحقاً رئيساً للجمهورية بدأت في إيران مرحلة جديدة. أضحى البناء عنواناً لفترة التسعينيات ومعها أرسيت دعائم دولة ما بعد الحرب. کانت التغییرات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية تعصف بإيران ممهدة لإنتخاب السيد محمد خاتمي رئيساً للبلاد في العام 1997 خلفاً لرفسنجاني. إحتفظ الرئيس الشيخ بمنصبه رئيساً لمجمع تشخيص مصلحة النظام الذي تولاه منذ تأسيسه عام 1989، كما بقي عضواً في مجلس خبراء القيادة قبل أن يتولى رئاسته من عام 2007 وحتى 2011.
أثار أولاد رفسنجاني الكثير من الجدل في إيران، كانت فائزة نائبة في البرلمان وفي الوقت عينه أول رئيس تحرير لصحيفة "زن" أو المرأة النسائية، وكذلك فهي كانت فاعلة على الصعيدين الرياضي والإجتماعي، كذلك فقد ارتبط إسم ولديه محسن ومهدي بصفقات تجارية، وهو ما أدى إلى دخولهم السجن في مراحل لاحقة. فائزة أيضاً دخلت السجن وهي شاركت في العام 2009 في الأحداث التي وقعت بعد الإنتخابات الرئاسية، الأمر الذي فاقم من النظرة السلبية لعائلة رفسنجاني من قبل المحافظين بشكل عام. كذلك فإن رفسنجاني نفسه كان محلاً لإثارة الجدل، كونه صاحب إمبراطورية إقتصادية ضخمة ولديه قدرة تأثير كبيرة على من يوصفون بلوبي هاشمي الإقتصادي في البلاد.
كانت سنوات العقد الأول في الألفية الثانية ذات وجوه عديدة لهاشمي. حاول الرئيس السابق العودة إلى شارع باستور مقر الرئاسة الإيرانية، لكنه خسر بشكل مفاجئ أمام مرشح مغمور حينذاك يدعى محمود أحمدي نجاد. رفع الأخير كل الأسلحة الممكنة في وجه رفسنجاني متهماً إياه بالفساد واستغلال السلطة والقوة.
شكلت سنوات أحمدي نجاد أقسى ما يمكن أن يمر على هاشمي الذي بقي مصراً على المواجهة وإن بشكل غير مباشر. إنتهت فترة أحمدي نجاد الأولى وجاء موعد الإنتخابات في حزيران 2009 وكانت النتيجة أن فاز، لكن فوزه كان محل تشكيك للقوى المنضوية تحت مظلة الإصلاحيين وهو الأمر الذي تطور إلى احتجاجات وبدا إلى حد كبير أن رفسنجاني كان متعاطفاً معها، وهو الأمر الذي أثّر بشكل كبير على علاقته بخامنئي في السنوات اللاحقة.
حاول هاشمي مجدداً الترشح للرئاسة عام 2013 لكن مجلس صيانة الدستور رفض طلبه بسبب سنه، لكن هناك من يقول إن الرئيس الأسبق تقدم بترشيحه لقطع الطريق أمام مرشح أحمدي نجاد إسفنديار رحيم مشائي من الدخول إلى الانتخابات. وقتها كان يبلغ من العمر 79 عاماً. دعم رفسنجاني تلميذه حسن روحاني وابنه الروحي للوصول إلى الرئاسة وهو ما تمّ بالفعل.
سيطر على وزارات حكومة الأمل التي يرأسها اليوم روحاني وجوه معروفة بعملها سابقاً مع رفسنجاني، وهو ما دفع البعض للقول إن الحكومة لرفسنجاني والرئاسة لروحاني. كانت هذه مقدمة لترشحه على رأس لائحة شبه مكتملة لانتخابات مجلس الخبراء وفوزه بكل مقاعد طهران إلا واحداً في العام 2016 وهو في 81.
عام فقط على رفعه شارة الفوز وضع هاشمي رأسه على الوسادة للمرة الأخيرة. أتعبته السياسة؟ ربما، لكنه هو أيضاً كان متعباً لها، مستفزاً، مستنزفاً. سيتوقف مسلسل المذكرات عن الصدور، بعد اليوم كل الذكريات ستروى على ألسن أخرى، سيكون هو في صيغة الغائب، ما أصعب أن تكون بطلاً لقصتك في صيغة الغائب.

Al-Mayadeeen Feeds